شخصيات من بلدي:الحاج راغب عبد الحافظ عيسى سعد عقل المشايخ من قبيلة السماعنه
إعداد:محمد حسن حسين سعد عقل المشايخ
عند ذكر العم راغب عبد الحافظ عيسى سعد عقل المشايخ، يتأكد الجميع، أننا لسنا بحاجة للبحث عن قرامي بيت نتيف وملح ارضها ومن ملأوا مقاعدها وازدانوا بعباءاتها، فهو من الأجداد المؤسسين الذين لا يحتاجون للإعلان عن أنفسهم، لأنهم خلـّدوا ذكراهم في قلوب الآباء والأبناء والأحفاد، كانت لهم هيبتهم، وكان لهم موقعهم المتميز.
وكان عمي راغب في طليعة الذين كانوا يتقدمون الصفوف كلما حدثت مناسبة اجتماعية لأهل بيت نتيف سواء في الأفراح أو الأتراح، وها هن جداتنا يخترقن حارات بيت نتيف في الأعراس، وأجدادنا في المقدمة، يتصدرهم الشيخ راغب، يـُغنين ويرفعن من مقامهم إلى درجة الوزراءجين السمعانيات بثياب الحبر.. وارجالهن قدامهن مثل الوزر..جين السمعانيات بالأطالس..وارجالهن قدامهن فوارس..جين السمعانيات بصيغة هولة(أي كثيرة) وأهلهن معهن والعرب والدوله).
العم راغب كان من القادة الأكفاء، ومن الرجال الذين يـُعمرون المجالس بثقافتهم الواسعة، وخبرتهم الحياتية الطويلة، وما أوصلتهم إليه من الحكم والمواعظ، بالإضافة إلى التديّن، كانت كلمته مسموعة، ولا يكاد أحد في جيلنا ينطق اسم العم راغب حتى يدعو الجميع لهم بالرحمة.
كان في طليعة رجالات العمل العام من الأجداد الذين لم يكونوا ذاتيين ولا أنانيين، رغم قسوة الظروف، وكان في صدارة الذين حفروا ارض بيت نتيف، وأخرجوا منها على أكتافهم وحـَمـّلوا على جـِمالهم حجارة الرومان الضخمة، وبنوا منها اساسات علاليهم الضخمة، وأحاطوها بمزروعات تبعث على خصب الحياة وتجددها..ويكفينا فخرا أن عليته الوحيدة في بيت نتيف التي كانت مبلطة ببلاط ملوّن كان قد أحضره من إحدى المغتصبات الصهيونية في عرتوف.
كانت علية عمي راغب في منطقة تسمى (جورة حمدية) وتقع عند "جرون القصبة" التابعات للمشايخ للدراسة بها(أي:دراسة السبل) ..وهي ممر طريق قرب مقام ابو مهدي..والطريق لم تكن مزروعة..اما جورة حمدية نفسها فقد كانت تنبت خبيزة بعل، ويـُلقـّـط منها كل أهل البلد ، وكانت تابعة للمشايخ وعليان ابو حلاوة ومحمد بدوان، وراغب عبد الحافظ،ومصطفى صفا..وكان جيران عمي راغب هناك: دار عليان ابو حلاوة، ودار محمود ابو حلاوة، ودار طه ابو شربي، وطاحونة ابو شربي، ودار خليل عبد الهادي، ودار حسن حماد، ودار مصطفى صفا، ودار محمود ابو مسلم.
وفي منطقة أخرى في بيت نتيف توجد "خربة الكيك" و تقع بجانب (شعب الكيك) كانت مزروعة بالقمح والشعير، وتتصل بشعب الخظور وهي في الوسط، وكان يملكها كل من :دار راغب المشايخ ، ودار خليل عبد الهادي، ودار حسين سعد، ودار عقل .
وفي بيت نتيف ايضا "خلة ام الجاج"وتقع شرقي البلد .. كانت تُفْلَحْ ، وممن اقاموا بها: دار راغب عبد الحافظ ، ودار سليمان عبد العزيز، ودار عبودة منصور، ودار ابو طربوش، ودار رضوان وحامد عبد الوهاب .
تزوج عمي راغب في بيت نتيف من ابنة العز والجاه مريم عبد الرحمن نانوس وأنجبت له من الأبناء الكرام:عبد الحافظ، سعدي، محمد، محمود، يوسف، ومن البنات:الكريمات:هدى، وحنان، ونعمة.
كما تزوّج عمي راغب في بيت نتيف من ابنة العز والجاه مريم عليان أبو حلاوة، وقد أنجبت له من الأبناء الكرام:قيصر وابراهيم، ومن البنات الكريمات:ندى.
حين كان الشيخ راغب يدخل حارة(مضافة) المشايخ، كانت ترحب به جدرانها معربة عن فرحتها بالقادم الجديد، ويفرح كل من فيها بحضور الشاب صاحب الهيبة والوقار، والخبرات والتجارب والقصص والحكايات التي تنعش الروح وتسعد كل من يصغي إليها، في المضافة ثمة من يبدعون النكات والطرائف، وثمة من يلعبون السيجة، وثمة من ينسجون السلال، وثمة من يتسلون بأكل القطين والزبيب والحلقوم، وشرب الشاي بالميرمية والقهوة السادة، العم راغب لم يكن يقترب لا من الطعام ولا من الشراب، بل يقدم للجميع زادا فكريا يروي ظمأهم ويثقفهم ويزيد معلوماتهم وينعش ذاكرتهم، وحين يأتي ضيوف لبيت نتيف، ويصلون إلى المضافة، يقوم أحد الشيوخ بدور القاضي الذي يصغي لطلب كل الموجودين بأن يكون إكرام الضيف على حسابه ومن منزله، وبعد أن يصغي شيخنا للجميع، يُحدد وفق آلية الدور التي يجيدها على من تكون الضيافة.. كان العم راغب يحب أطفال بيت نتيف ويشجعهم على الحضور إلى المضافة لا ليلعبوا فحسب، ولكن لأنه يدرك أن المجالس مدارس، وأن هؤلاء الأطفال سيكونون رجال المستقبل، وينبغي عليهم أن يتعلموا مما يسمعونه ويشاهدونه في المضافة.
راغب عبد الحافظ عيسى سعد عقل المشايخ، ولد في بيت نتيف عام م1896، وكان والده (عبد الحافظ) من قامات المشايخ وبيت نتيف، مشهورا برجولته وكرمه وحبه لعشيرته وبلده، ولأن السلطات العثمانية كانت تعفي من يتزوج غريبة عن منطقته من الخدمة العسكرية، فقد تزوج(عبد الحافظ) صبية من قرية إجراش، واشتهرت زوجته في أوساط أهالي بيت نتيف باسم(الجراشية)، وقد أنجبت منه طفلتين وطفل، الطفلتان(حليمة وجميلة) والطفل هو راغب الذي أرضعته (الجراشية) حليب الشجاعة والرجولة والبطولة والفروسية والوفاء والاخلاص والحنان، وقبل أن يشتد عود ذلك الطفل راغب، انتقل والده عبد الحافظ الى رحمته تعالى، فآثر راغب مجالس الرجال ومجالس القضاء، متفاعلا مع ما يحدث في تلك القرية الصغيرة بمساحتها الكبيرة باهلها ورجالها، وكان يحرص كل الحرص على ذلك المجلس الذي كان يسمى بالحارة(المضافة) .وكان المجلس لا يحضره إلا من كان يحضر القهوة والشاي والسكر، وما كان يستطيع ذلك إلا الميسور ، وكان العم راغب قد ورث من ملك الله من الاراضي الكثير، ولكن لأنه وحيد(أبويه) أوكل ابناء عمومته بالاهتمام بالارض وحراثتها وزراعتها وحصادها، وكان يرضى بما يخرجه ابناء عمومته من القسمة .ومن أهم مواصفات العم راغب الطيبه والكرم والرجولة االموروثة، ولم يحدث أن اختلف مع ابناء عمومته.ونشأ واستمرت حياته على ذلك على التفرغ والتفاعل مع عشيرته واهل بلدته الطيبة بأهلها ، الأمر الذي حال بينه وبين اللجوء الى العمل والشقاء، فعاش عزيزا كريما.
ساهم العم راغب الشركة الوحيدة التي ساهم في تأسيسها اهالي قرية بيت نتيف، وغيرها من قرى العرقوب، وعددها24قرية،وهي شركة باصات العرقوب، حيث ساهم عمي راغب والتالية اسماؤهم من بيت نتيف بـ ( 17 ) سهماً من اصل ( 40 ) سهماً تشكل رأس مال الشركة البالغ ستة آلاف جنيه فلسطيني، حيث كانت قيمة السهم ( 150 ) جنيهاً فلسطينياً : محمد عبد الحميد مطلق ، محمد جبرين بشير ، عبد الحميد عبد ربه ابو طربوش ، عبد الفتاح احمد اخميس ، احمد عبد الحافظ إخميس ، محمد عبد الحافظ اخميس، محمود عبد الحافظ إخميس ، علي محمد علقم ، اسماعيل عبد الحميد ابو حلاوة ، حمودة محمد ابو عريش ، راغب عبد الحافظ المشايخ ، عثمان عبد العزيز عقل ، عبد ربه حسن ابو شعيرة ،عبد العزيز احمد خلف ، محمود حسين مسلط ، حسن عبد الحميد ، توفيق أحمد عبد الرحمن ، محمود محمد عايش ، يوسف طه ابو شربي ، جميل عبد الله خليل ، عبد الهادي اسماعيل ابو نحلة .
وقد تأسست هذه الشركة بالفعل، ومارست نشاطها، وبعد عام 1948 انتقلت الباصات مع اللاجئين من القرية إلى مخيمات اريحا.. حيث تمَّ بيعها وتوزيع رأس مالها مع الأرباح على المساهمين.
كان عمي راغب في طليعة المجاهدين الذين وضعوا ارواحهم في سبيل الله رهن حماية فلسطين، وازداد نشاطه خلال ثورة عام1936، مما أدى لأن تعتقله سلطة الانتداب البريطاني، أكدت ذلك جريدة القدس المقدسية في عددها الصادر بتاريخ 6/3/1999في تحقيقها الذي كتبه عباس نمر تحت عنوان(من القرى المدمرة:بيت نتيف قضاء الخليل).
وكان من أهم صفات عمي راغب انه قليل الغضب، ويحب الحوار، وكان محبا للشباب، ويلجأ للمشورة، وكان صاحب قرار إن دعى الداعي، وخاصة إذا كان القرار يستدعي الجد، وقد يترتب عليه شيئا من التحدي من الطرف الآخر. وكان ملبيا وبهمة عاليه لقضاء حوائج أهله وعشيرته ومن يسأله العون في قضايا الحقوق والصلاح والاصلاح.
وكان من فضل الله عليه، أن قبضت روحه وهو يمارس الاصلاح بين الناس، واسترداد حقوق المظلومين، والضرب على يد الظالم،
وعن يوم رحيله يقول ابن العم محمود راغب(ابو ايهاب) الذي زودني بمعظم ما في هذه السيرة: سبحان الله ومن عجائب القدر أنني كنت يوم وفاته (12/11/1982) مرافقا له وبصحبة اثنين من اشقائي هما سعدي راغب رحمه الله،و قيصرراغب مد الله بعمره..
ومما لفت انتباهنا عند وصولنا مثلث عين الباشا، أن أحد رجال الأمن العاملين في دورية للشرطة الخارجية، طلب من سيارتنا التي كان يقودها ابن العم مصطفى شليق وعليها طبعة مكتب تكسي البرج في الشميساني، أن تتوقف، ولما اراد ابن العم مصطفى ايقاف ايقاف السيارة، وتوقف فعلا ولكنه لم يطفئ المحرك، وإذا بضابط الدورية يصرخ بغضب: تكسي البرج تحرّك، فتابعنا المسير، ودخلنا المخيم بطريق التفافي، تحسبا من أن نكون قد تأخرنا عن الاهل وعن العم عبد الرحمن خشرم رحمه الله صاحب القضية .
وسبحان رب السماوات، ما لفت الانتباه، ذلك الجـَمْع الكبير من عشيرة المشايخ بعوائلها وأفخاذها متواجدين لاستقبال الجاهة القادمة، وما لفت الانظار أيضا ذلك الاستقبال الحار للوالد من الجميع بالعناق والتقبيل، وكأنهم لم يرونه منذ زمن بعيد .وجلس رحمه الله على الكرسي حتى جاء الحاج عبد الرحمن خشرم ابو عرفات وسأل الوالد ما المطلوب وبماذا سيتحدث مع الجاهة فقال له الوالد: يا أبا عرفات..إن كانت الجاهة تعرف عادات العشائر والحقوق واعترفوا بحقوقنا واستعدوا لتقديمها، سأقول لهم أن الله أمرنا بالعفو حين قال سبحانه وتعالى"والعافين عن الناس" وما إن أكمل كلامه حتى سقط على الارض مفارقا عشيرته وأهله وأحباؤه وليلقى وجه الله سبحانه.
ومن المفارقات، أنه ذهب في ذلك اليوم لتأدية واجب زواج أحد أبناء العائلة وهوشريف عيسى سعد في مخيم حطين"شنلر" ولم يتناول طعام الغداء رغم الرجاء من إبن عمه عيسى حسن سعد. رحمه الله وأنار عليه قبره.ورحم الله الأجداد والآباء والأعمام الأشراف الذين كانوا يملأون الارض طيباً وكرماً وفروسية وأخلاقاً وشجاعة وتسامحاً .
غادرنا(أسرة حسن حسين سعد عقل المشايخ)مخيم الكرامة قبل معركتها المشهورة في21/3/1968باسبوع، وسكنا في بيت قرب مثلث عوجان – ياجوز، وسرعان ما رحل بنا الوالد إلى جوار منزل عمي راغب، ويا عزّ الجيرة، ولقد وفـّرت إقامتنا بجانبه الكثير من الجهد في أثناء توصيفنا مكان منزلنا لأقاربنا، نقول بجوار منزل عمي راغب فقط، وسرعان ما يصل السائل ويعرف أين نحن بالضبط سواء قبل استحداث الهواتف الأرضية أو الخلوية أو خرائط غوغل..وما بعدها.
لم يكن عمي راغب مختارا، ولكن ما كان يقوم به أهم من عمل المخاتير، وكانت داره دائما عامرة بالأقارب والزوار والأحباب.
وقد حضرت معه مرة طلبه عروس، وحين اشترط أهلها مهرا غاليا، حاول اقناعهم بتنزيل المهر لأن (أقلهن مرا أكثرهن بركة)، ولأن (عين أهل العريس بصيرة ويدهم قصيرة)، وحين لم يقتنعوا قال لهم: بنتكم من لحم ودم، ولا يمكن توزينها بمال العالم كله، وهنا تنازلوا عن المهر كاملا، وكلفوه أن يحدد هو المهر الذي يشاء.
وسمعته مرة يقول لأحد الفتيان وهويحمل المهدة ويحاول خلع بوابة منزلهم: يا ولد لو انك تستطيع أن تقلع عينك لما قصّرت.
وسمعته يقول لأحد أبناء بيت نتيف المبدعين وهو يجبل بالطينة لإصلاح أحد الجدران:أنت كنز في مزبلة..وقال عن طفل آخر..هذا طفل صغير ولكنه كقطعة الذهب غالي.
رحم الله عمي راغب وأسكنه فسيح جنانه، ووسـّع قبره عليه